كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فذهب جمهور العلماء إلى توقيت المسح بيوم وليلة المقيم، وثلاثة ايام بلياليهن للمسافر.
وإليه ذهب الأئمة الثلاثة: أبو حنيفة، والشافعي، وأحمد، وأصحابهم وهو مذهب الثوري، والأوزاعي، وأبي ثور، وإسحاق بن راهويه، وداود الظاهري، ومحمد بن جرير الطبري، والحسن بن صالح بن حسين.
وممن قال به من الصحابة: علي بن أبي طالب، وابن مسعود، وابن عباس وحذيفة، والمغيرة، وأبو زيد الأنصاري.
وروي أيضًا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعن جميعهم.
وممن قال به من التابعين شُرَيْح القاضي، وعطاء بن أبي رباح، والشعبي، وعمر بن عبد العزيز.
وقال أبو عمر بن عبد البر: أكثر التابعين والفقهاء على ذلك.
وقال أبو عيسى الترمذي: التوقيت ثلاثًا للمسافر، ويومًا وليلة للمقيم هو قول عامة العلماء من الصحابة، والتابعين ومن بعدهم.
وقال الخطابي: التوقيت قول عامة الفقهاء، قاله النووي.
وحجة أهل هذا القول بتوقيت المسح الأحاديث الواردة بذلك، فمن ذلك حديث علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن، وللمقيم، يوم وليلة»، أخرجه مسلم، والإمام أحمد، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وابن حبان.
ومن ذلك أيضًا حديث أبي بكرة عن النَّبي صلى الله عليه وسلم «أنه رخص للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن، وللمقيم يومًا وليلة، إذا تطهر فلبس خفيه أن يمسح عليهما»، أخرجه ابن خزيمة، والدارقطني، وابن أبي شيبة، وابن حبان والبيهقي، والترمذي في العلل، والشافعي، وابن الجارود، والأثرم في سننه، وصححه الخطابي، وابن خزيمة، وغيرهما.
ومن ذلك أيضًا حديث صفوان بن عسَّال المرادي قال: «أمرنا- يعني النَّبي صلى الله عليه وسلم- أن نمسح على الخفَّين إذا نحن أدخلناها على طهر ثلاثًا إذا سافرنا، ويومًا وليلة إذا أقمنا، ولا نخلعهما من غائط، ولا بول ولا نوم ولا نخلعهما إلا من جنابة» أخرجه الإمام أحمد، وابن خزيمة والترمذي، وصححاه والنسائي، وابن ماجه، والشافعي، وابن حبان، والدارقطني، والبيهقي.
قال الشوكاني في «نيل الأوطار»: وحكى الترمذي عن البخاري، أنه حديث حسن، ومداره على عاصم بن أبي النجود، وهو صدوق، سيء الحفظ.
وقد تابعه جماعة، ورواه عنه أكثر من أربعين نفسًا قاله ابن منده اهـ.
وذهبت جماعة من أهل العلم إلى عدم توقيت المسح وقالوا: إن من لبس خفيه، وهو طاهر، مسح عليهما ما بدا له، ولا يلزمه خلعهما إلا من جنابة.
وممن قال بهذا القول مالك، وأصحابه، والليث بن سعد، والحسن البصري.
ويروى عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، والشعبي، وربيعة، وهو قول الشافعي في القديم، وهو مروي عن عمر بن الخطاب، وابنه عبد الله، وعقبة بن عامر رضي الله عنهم.
وحجة أهل هذا القول ما رواه الحاكم بإسناد صحيح عن أنس رضي الله عنه، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم: «إذا توضَّأَ أحدكم، فلبس خفيه، فليمسح عليهما، وليصلِّ فيهما، ولا يخلعهما إن شاء، إلا من جنابة ونحوه».
وأخرجه الدارقطني.
وهذا الحديث الصحيح الذي أخرجه الحاكم وغيره، يعتضد بما رواه الدارقطني عن ميمونة بنت الحارث الهلالية، زوج النَّبي صلى الله عليه وسلم من عدم التوقيت.
ويؤيده أيضًا ما رواه أبو داود، وابن ماجه، وابن حبان، عن خزيمة بن ثابت رضي الله عنه، أنه زاد في حديث التوقيت ما لفظه: ولو استزدناه لزادنا، وفي لفظ «لو مضَى السائل علَى مسألته لجعلها خمسًا» يعني ليالي التوقيت للمسح.
وحديث خزيمة هذا الذي فيه الزيادة المذكورة صحَّحه ابن معين، وابن حبان وغيرهما، وبه تعلم أن ادعاء النووي في «شرح المهذب» الاتفاق على ضعفه، غير صحيح.
وقول البخاري- رحمه الله-: إنه لا يصحُّ عنده لأنه لا يعرف للجدلي سماع من خزيمة، مبني على شرطه، وهو ثبوت اللقى.
وقد أوضح مسلم بن الحجاج- رحمه الله- في مقدمة صحيحه، أن الحق هو الاكتفاء بإمكان اللقى بثبوت المعاصرة، وهو مذهب جمهور العلماء.
فإن قيل: حديث خزيمة الذي فيه الزيادة، ظن فيه أن النَّبي صلى الله عليه وسلم لو استزيد لزاد، وقد رواه غيره، ولم يظن هذا الظن، ولا حجة في ظن صحابي خالفه غيره فيه.
فالجواب: أن خزيمة هو ذو الشهادتين الذي جعله صلى الله عليه وسلم بمثابة شاهدين، وعدالته، وصِدْقُه، يمنعانه من أن يجزم بأنه لو استُزيد لزاد إلا وهو عارف أن الأمر كذلك، بأمور أُخر اطلع هو عليها، ولم يطلع عليها غيره.
ومما يؤيد عدم التوقيت ما رواه أبو داود، وقال: ليس بالقوي عن أُبي بن عمارة رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله امسح على الخفين؟ قال: «نعم قال: يومًا: قال نعم، قال: ويومين، قال: نعم، قال: وثلاثة ايام، قال: نعم، وما شئت».
وهذا الحديث وإن كان لا يصلح دليلا مستقلًا، فإنه يصلح لتقوية غيره من الأحاديث التي ذكرنا.
فحديث أنس في عدم التوقيت صحيح. ويعتضد بحديث خزيمة الذي في الزيادة، وحديث مسمونة، وحديث أُبي بن عمارة، وبالآثار الموقوفة على عمر، وابنه، وعقبة بن عامر، رضي الله عنهم.
تنبيه:
الذي يظهر لي- والله تعالى أعلم- أنه لا يمكن الجمع في هذه الأحاديث بحمل المطلق على المقيد، لأن المطلق هنا فيه التصريح بجواز المسح أكثر من ثلاث للمسافر، والمقيم، والمقيد فيه التصريح بمنع الزائد على الثلاث للمسافر واليوم والليلة للمقيم. فهما متعارضان في ذلك الزائد، فالمطلق يصرح بجوازه، والمقيد يصرح بمنعه، فيجب الترجيح بين الأدلة، فترجح أدلة التوقيت بأنها أحوط، كما رجحها بذلك ابن عبد البر، وبأن رواتها من الصحابة أكثر، وبأن منها ما هو ثابت في صحبح مسلم، وهو حديث علي رضي الله عنه المتقدِّم.
وقد ترجح أدلة عدم التوقيت بأنها تضمنت زيادة، وزيادة العدل مقبولة، وبأن القائل بها مثبت أمرًا، والمانع منها ناف له، والمثبت أولى من النافي.
قال مقيده عفا الله عنه: والنفس إلى ترجيح التوقيت أميل، لأن الخروج من الخلاف أحوط، كما قال بعض العلماء:
وإن الأورع الذي يخرج من ** خلافهم ولو ضعيفًا فاستبن

وقال الآخر:
وذو احتياط في أمور الدين ** من فرَّ من شك إلى يقين

ومصداق ذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك».
فالعامل بأدلة التوقيت طهارته صحيحة باتفاق الطائفتين، بخلاف غيره فإحدى الطائفتين تقول ببطلانها بعد الوقت المحدد، والله تعالى أعلم.
واعلم أن القائلين بالتوقيت اختلفوا في ابتداء مدة المسح.
فذهب الشافعي، وأبو حنيفة، وأصحابهما، وأحمد في أصح الروايتين عنه، وسفيان الثوري، وداود في أصح الروايتين، وغيرهم، إلى أن ابتداء مدة التوقيت من أول حدث يقع بعد ليس الخف، وهذا قول جمهور العلماء.
واحتج أهل هذا القول بزيادة رواها الحافظ القاسم بن زكريا المطرز في حديث صفوان: من الحدث إلى الحدث.
قال النووي في «شرح المهذب»: وهي زيادة غريبة ليست ثابتة.
واحتجوا أيضًا بالقياس وهو أن المسح عبادة مؤقتة، فيكون ابتداء وقتها من حين جواز فعلها قياسًا على الصلاة.
وذهب جماعة من أهل العلم إلى أن ابتداء المدة من حين يمسح بعد الحدث.
وممن قال بهذا، الأوزاعي، وأبو ثور، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، وداود، ورجح هذا القول النووي، واختاره ابن المنذر، وحكي نحوه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
واحتج أهل هذا القول بأحاديث التوقيت في المسح، وهي أحاديث صحاح.
ووجه احتجاجهم بها أن قوله صلى الله عليه وسلم: «يمسح المسافر ثلاثة أيام» صريح، في أن الثلاثة كلها ظرف للمسح.
ولا يتحقق ذلك إلا إذا كان ابتداء المدة من حين لبس الخف، وحكاه الماوردي والشاشي، عن الحسن البصري، قاله النووي، والله تعالى أعلم.
المسالة السادسة: اختلف العلماء: هل يكفي مسح ظاهر الخف، أو لابد من مسح ظاهره وباطنه. فذهب جماعة من أهل العلم إلى أنه يكفي مسح ظاهره.
وممن قال أبو حنيفة، وأحمد، والثوري، والوزاعي، وحكاه ابن المنذر، عن الحسن، وعروة بن الزبير، وعطاء، والشعبي، والنخعي، وغيرهم.
وأصح الروايات عن أحمد أن الواجب مسح أكثر أعلى الخف، وأبو حنيفة يكفي عنده مسح قدر ثلاثة أصابع من أعلى الخف.
وحجة من اقتصر على مسح ظاهر الخف دون أسفله، حديث علي رضي الله عنه قال: «لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه، لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على ظاهر خفيه» أخرجه أبو داود، والدارقطني.
قال ابن حجر في «بلوغ المرام»: إسناده حسن.
وقال في «التلخيص»: إسناده صحيح.
واعلم أن هذا الحديث لا يقدح فيه بأن في إسناده عبد خير بن يزيد الهمداني، وأن البيهقي قال: لم يحتج بعبد خير المذكور صاحبا الصحيح، اه. لأن عبد خير المذكور، ثقة مخضرم مشهور، قيل: إنه صحابي.
والصحيح أنه مخضرم وثقه يحيى بن معين، والعجلي، وقال فيه ابن حجر في «التقريب»: مخضرم ثقة من الثانية لم يصح له صحبة.
وأما كون الشيخين لم يخرجا له، فهذا ليس بقادح فيه باتفاق أهل العلم.
وكم من ثقة عدل لم يخرج له الشيخان!
وذهب الإمام الشافعي- رحمه الله- إلى أن الواجب مسح أقل جزء من أعلاه، وأن مسح أسفله مستحب.
وذهب الإمام مالك- رحمه الله- إلى أنه يلزم مسح أعلاه وأسفله معًا، فإن اقتصر على أعلاه أعاد في الوقت، ولم يعد أبدًا، وإن اقتصر على أسفله أعاد أبدًا.
وعن مالك أيضًا أن مسح أعلاه واجب، ومسح أسفله مندوب.
واحتج من قال بمسح كل من ظاهر الخف وأسفله، بما رواه ثور بن يزيد، عن رجاء بن حيوة، عن ورَّاد، كاتب المغيرة بن شعبة «أن النَّبي صلى الله عليه وسلم مسح أعلى الخفِّ وأسفله»، أخرجه الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، والدارقطني، والبيهقي، وابن الجارود.
وقال الترمذي: هذا حديث معلول، لم يسنده عن ثور غير الوليد بن مسلم، وسالت ابا زرعة ومحمدًا عن هذا الحديث فقالا: ليس بصحيح. ولا شك أن هذا الحديث ضعيف.
وقد احتج مالك لمسح أسفل الخف بفعل عروة بن الزبير رضي الله عنهما.
المسألة السابعة: أجمع العلماء على اشتراط الطهارة المائية للمسح على الخف، وأن من لبسهما محدثًا، أو بعد تيمم، لا يجوز له المسح عليهما.